قطعة الحلوى



يقسم ذلك الذي أنقذه بأنه كان يرى دموعه تنزل حين كان مغشياً عليه
ويده تشير إلى جهة ما. عمل على إنعاشه، فأخذ يفيق تدريجياً
وانتفض وحاول النهوض بشكل سريع، مما تسبب في جفول منقذه
ولكنه عاد وسقط متألما، أعاقته قدمه المكسورة، فأخذ يجر
جسده على الوحل ويصرخ
بشكل هستيري: أبنائي أبنائي، حاول الآخر طمأنته، ولكنه شرع
يتوسل إليه بأن يأخذه إلى سيارته.
بعد أن تاه بين الحطام متوكئاً على منقذه، عثر عليها مقلوبة بين أخريات.
أغشي عليه مرة أخرى، وعندما أدرك حجم الفاجعة،
حاول أن يقاوم ذلك المنظر البشع لسيارته
ولكن صغاره ناموا ليلتهم الأخيرة
ريم مازالت ممسكة بقطعة الحلوى التي دسها في يدها خلسة

أزيز ذاكرته أنهك مقاومته، وصوتٌ آتٍ من البعيد يخطفه من لحظته تلك إلى:

بعدين ، بعدين ، بعدين.
الذهاب إلى مدينة الألعاب التي وعد أبناءه
بأخذهم إليها يتراءى له وكأنه قطعة من العذاب يسوقونه إليها. يكره الأماكن المزدحمة
وخاصة إذا كانت للأطفال، عوضاً عن خوفه عليهم من بعض الألعاب هناك.
لا يفتأ يتذكر تهشم أسنانه عندما كان يلعب ( سيارات الصِّدام ) في صغره،
حين اصدم به أحدهم من الخلف على حين غرة.

تؤذيه نظرات الحزن المفتعل التي ترمقه بهما ريم أحب أبنائه
الأربعة، حاول أن يماطل
ولكن ريم لم تمنحه فرصة وأخذت تقفز وتردد ( رايحين الملاهي، رايحين الملاهي )
هنا لم يجد مناصاً من تحقيق رغبتهم، أمرهم بأن يسرعوا بالتجهز
قبل أن يغير رأيه، وأخذ يردد بينه وبين نفسه متقمصاً
دور الحكيم " أن تكون أباً يعني أن تعمل من أجل رفاهية وسلام
أبنائك "

وفي وقت وجيز كانوا جميعهم متحلقون حوله استعداداً للرحلة.
غمز لريم ودس في يدها قطعة حلوة ووشوش لها بألا تخبر إخوتها.

تكتكة المطر على زجاج سيارته أنعشته وكان لابد أن يشاكسهم، تظاهر
بالغضب ووجه حديثهم إليهم:
- هاهي تمطر وسوف تتسخ ملابسكم وكذلك السيارة الجديدة،
إذن لا بد أن نعود إلى المنزل ونؤجل الرحلة.
تعالت أصواتهم المحتجة بما يشبه البكاء ( الله يخليك يا بابا ما نبغا
نرجع البيت )
ضحك لمنظرهم البائس، وأعلمهم بأنه سيكمل الرحلة حتى لو
داهمهم السيل، مما جعله يسائلهم مازحا:
- لو داهمنا سيل ماذا ستفعلون، وأنتم لا تجيدون السباحة؟
ضحكت ريم هازئة:
- (يعني إنتا اللي تعرف ! ).

صوت الرعد كان مخيفا له فكيف بأبنائه الذي صمتوا فجأة
أخذ يردد ( سبحان الذي يسبح الرعد بحمده من الخوف ) وكانوا يرددونها وراءه كيفما اتفق.

ساوره القلق عندما وجد الطريق مزدحماً على غير العادة حتى أنهم
مكثوا قرابة الساعة في نفس المكان، حزم أمره وطلب
من زيد - أكبر أبنائه - أن يقفل الأبواب من الداخل وأن يلزموا أماكنهم
حتى يعود، قرر أن يذهب إلى الأمام ليرى ما السبب في كل هذا
التعطيل، خاصة وأن آخرين بجواره فعلوا نفس الشي، مما شجعه على التقدم.
هدد أبناءه بأن من يشاغب منهم سوف لن يحظى
بفرصة اللعب في الملاهي، سار بخطوات متسارعة والأفكار تتناوشه والمطر يهطل عليه بغزارة والريح تكاد تعيده إلى الوراء،
وكان أغلب ظنه بأن حادث اصطدام سيارتين هو من أغلق الطريق أمامهم، أخذ يردد:
- اللهم سلّم سلّم،
ولكن اندفاع السيل تجاهه صمّه عن كل شيء.
لوثة جنون هزّت أركانه فرَقاُ على أبنائه، حتى وهو يغرق
كانت يده تشير إلى الوراء حيث ترك صغاره.

!!



الوفاء كعادة رتيبة يجعل الذاكرة تجامل الموتى،
تربِّت فوق أضرحتهم،
حتى تأتي سيول النسيان وتجرفهم بعيداً

قِطَعُ استفهامٍ هشة



لماذا أبدأ معكِ - دائماً - بنفي أو استفهام،
كأن أقول: لَم توسديني صوتك هذا المساء
أو: لماذا انفرجت شفتاك ولم تنبس بـ أحبكَ منذ مكالمتين ونصف لقاء؟

تارة أخبئ شوقي وتجيء (لاء النفي) حداً يفصل بين الهيام والجنون

وتارة أدير وجه الكلمات وتتكوم اللهفة بجانبي ويخمِدك عبوسي المفتعل

استفهامتي التي تكظمين غيظك عنها تلك منعطفي الأشد سخونة
حين تزيح الآهات لتدس رأس السؤال في عمق مرارتك
ها أنا أقفل على أبواب (النهي) كي لا يسبقك شالك فلا أدرك بعض ظلّك

ليت الشتاء الذي علمني الانتظار
يقذف بي خارج آطامه، بمحاذاة شفتيك
وأتكوَّر فيه كطفلك المدلل أقيس المسافة ما بين زندك ونحرك


حزمت أمر مزاجيتي فأضحَتْ كـ بيانو عتيق خضع لرقص أصابعك
يمَّمْت جداولي شطرك ، وحين شذَّ ذراع بترتُ حلمه القصير
هيأت ذاكرتي لسباتٍ شتويٍ لا يوقظها سوى هديلك وشذى ياسمينك

ما أنتِ ../
من أنتِ بعد أن كفَفْتُ النفي لكِ
وقضَمْتِ بين شفتيك على قطع الاستفهام الهشة

بل ما أنا لو ساقطتِ كسفاً من روعك
من هجيرك

أو من أنا
إذا ما غشاني النهي وسالت حماقة الثلاثين
إذا ما اكتويتِ بالنصف الفارغ
إذا ما (حوقلتِ) وأثنيتِ ركابك
واستوى الطريق
؟