شهقة أحلام

فكرة النص لـ / عبدالغني الأنصاري.


الشارع الذي تطل عليه العمارة التي أسكن إحدى شققها، يعتبر من الشوارع الحية التي لا تموت صباحا ومساءً، الحركة فيه دؤوب على مدار اليوم، باعة ومتجولون وأولئك المتسكعين الذي يتخذون لهم مكانا على (دكة) أحد المنازل يثرثرون , يعبثون، وأكثرهم عاطلين العمل، لشح الوظائف وإهمالهم لدراستهم. أظن أن أحلامهم لا تتعدى أقدامهم، كل ما يشغلهم تلك المستديرة، وكيف يصبحو لاعبين مشهورين في أفضل الأندية.

في الخامسة من كل مساءً أنطلق مباشرة إلى النافذة،
جارتي الجميلة أحلام تكون هناك تتكئ على نافذتها في ذلك الوقت،
ولا بد أنني سأحظى بقرابة نصف ساعة للتلصص عليها وتأمل فتنتها،
وهكذا أخذت أرسم مساراً لحلم يشبه اسمها، وجنة موعودة معها.

ذات يوم انتبهت على شهقة وربما صرخة مكتومة،
التفت إلى الجهة التي تنظر إليها ، كان زيد ابن جاري أحمد يعبر الشارع، ويبدو أنه داس على بعض قطع الزجاج المتناثرة التي ألقاها أحد المتسكعين، وتسببت في إيذائه، ولأن مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد، فقد طال مكث أحلام على النافذة تراقب زيد وهو يتألم،
والدم يسيل من قدمه، خاصة وأن منظره وهو يعرج كاد يفتت قلبها،
ولسان حالها يشتم أولئك المستهترين الذين يلقون بالقوارير الفارغة من دون أدنى مراعاة أو ضمير، و"من أمِن العقوبة أساء الأدب"، وأنا بدوري أتمعن في ملامحها، فوق الوقت المسموح لي، كما أفعل كل يوم، وأقطع شوطأ ممتعاً في استدرار الحلم.

بعد ذلك اليوم بأسبوع جاءت أختي سناء تركض وعلى وجهها أمارات الخوف الحزن،
لتخبرني بأن أحلام نقلت إلى الحجر الصحي، للاشتباه بإصابتها بمرض (أنفلونزا الخنازير).
تداعى إلى ذاكرتي منظر لأحد العابرين قبل ثلاثة أيام حينما ألقى بمنديل مستعمل،
وكان من سوء الحظ أن جاء سقوطه تحت نافذة أحلام، ويبدو أن صاحبه هو من تسبب لها في العدوى، وأخذت أحلل كيفية حدوث ذلك ..
فذلك المنديل الذي سقط، أصابته الشمس ولابد أن الأرض كانت رطبة فتشبعت منه التربة، وانبثعت غازات والتي بدورها امتزجت مع الهواء، وصادف وقوف أحلام على النافذة فاستنشقت ذلك، فأصيبت بالعدوى.

ولأن الأخبار السيئة تأتي تترى، فلقد تناهى، إلى مسمعي بأن زيد
قد أصيب بشلل في رجله اليسرى، وأردف الذي أخبرني بذلك ..
ويبدو أن هذا جراء إهمال أهله لحالة قدمه منذ دخول قطعة الزجاج فيها.

والمفارقة في الحدث أن الشلل أصابه بعد آخر يوم رأيت فيه أحلام وهي تشهق.

شمساً خاصةً به




قال لي ..
نحن الغوغاء ليس الطعام قضيتنا، الكرامة هي ما يورِدنا حتفنا
نصرخ ونزمجر، نكسّر ما تطاله أيدينا من كؤوس وأوانٍ منزلية، ولكن لا نستطيع أن نشتم لجنة التفتيش التي تعترض طريقنا في عز ظهيرة فصل حارق يذوّب الجلود الخشنة، ليسائلنا عن رخصة القيادة واستمارة سيارة انتهيت صلاحيتها ولم نقم بتجديدها، قيمة ذلك تعادل مصروف الأرغفة التي نسد بها أفواه أطفالنا، ناهيك عن كون السيارة ذاتها أقل قيمة من المبلغ الذي قد ندفعه غصباً في تجديدهم.
غرفة الأربعين فرداً بمرحاض واحد، وما يسبقها من نظرة احتقار من شرطي يعبث بعود أسنان ويتحدث بفوقية، أشد قهراً من تلك الأجواء التي أعتقد معها بأن لكل فردٍ منا شمساً خاصة به من شدة القيظ.

الأنثى المتخيلة


أكنتُ أعنيها حينما حلمتُ بأن أدثِّر فراشات وجنتيك وأنثرها؟
أحتاج لأن أقطع ألف طريق وأشق مثلها من الأزقة كي يلفحني شيء من وهجك
قبلك ما كان يشغلني تبذير الكثير من الأسئلة ورعاية شجرتها المسمومة
كان يجب ألا تموت أيامي حزينة
وما كان يجب أن تقبري حكاياتنا المليئة بالشجن الشفيف
أعلم أن الضباب يسكن أشياءنا الصغيرة وأنكِ لا تنفكين تدعين ألا ينقشع
دعيني أسر لكِ بأمنية ..
تمنيت أن أكتب امرأة حقيقية عِوضاً عن تلك الأنثى المتخيلة
وحين آمنت بأنها لن تجيئ ادخرت أوهامي لأنثى النار تشعل زند حرفي المسجون
ولامرأة تشبه غيمة، امرأة بيضاء تطهّرني من آثام الوحدة والصمت
لم أخبرك بأن نَفَس آمالي ليس بطويل يا سيدتي
وأنني ما زلت أكتب تلك التي لن تخلق!

تعبرني وأقطفها




كتبت عن المدينة
الصبر
والصمت
والأنثى الحزينة

عن الأشياء تعبرني وأقطفها
وتخطفني فأركلها
مللت الجلد يا ذاتي
وملّ السهد تحميلي
ذنوب الأمس .. والآتي


أردد في المدى جزِعاً
متى تاهت مسراتي
أيا بيضاء يا سمراء
هل كفّنتِ أحداقي

لِم أسرفتِ في ظمئي
وواريتِ ربيع الأنس
فاحتضرت حكاياتي

سيرة مباحة





صوت موسيقى yanni (نوستلجيا) يتسلل ليكسب المكان شيء من الهدوء النفسي، وعلى الشاشة الكبيرة برنامج وثائقي عن التلوث البيئي .

- هل سيجتمعون اليوم أيضا ؟
طرح سؤاله دون أن ينتظر إجابة، فقط أومأت برأسي.. أن نعم.
كانوا في كل آخر أسبوع يجتمعون على شرف سمعته، هو مادة خصبة للجميع - خاصة - حينما لا يكون هناك ما يتحدثون حوله. يتفقون بدون سابق موعد على استحضار سيرته.
الآنسة راغبة - بالمناسبة ليس هذا اسمها، ولكنه التصق بها بعد أن وصفها به صديقي حين لاحظ كثرة رغباتها التي تنحصر في صنف محدد من الرجال مع أنها تعدت حاجز الخمسين من العمر - تتعجب من عدم رغبته في الزواج، بل إصراره على البقاء وحيداً , وكثيراً ما تطلب منهم عرضه على أخصائي (ذكورة) وتلمّح إلى كونه ( عنِّين ).
تعارض ذلك السيدة بريرة صاحبة اللسان السليط والتي لا يسلم من (حوقلتها) أحد ..
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ليس كذلك يا راغبة لا تقعي في الرجل، تلك ذنوبه الكثيرة السابقة، ويبدو أن عيناً أصابته، هو في حاجة إلى شيخ يقرأ عليه.
الكل يطارد دخان سيجارة طارق. طارق الذي يحتقرهم جميعاً يفلسف الأمور على طريقته .. يزدري آراءهم، يراهم من عِل.
يتكرر المشهد ..
يرفع يده التي يمسك بها سيجارته، يراقص دخانه. ويصمت الجميع بانتظار ما سيتفوه به، يسحب نفساً عميقاً منها ويظللهم بسحابة دخانه ويتحدث بهدوء العارف :
- هناك مأزق. والتغير الجذري لم ينبت ( كالفقع ) فجأة، أعتقد أنه يصارع ماضيه،
آ آ .. أظن العلاقة بينه وبين حاضره مشوشة، علينا أن نفهم كيف يفكر.
هكذا هو طارق، فالكل يؤيد ما يقول، مع أنه أكثرهم جهلاً، ولكنه الأعلى مقاما، يكفي أن يحمل شهادة دكتوراة.

لماذا يبعثه الآخرون في اللحظة التي يأوي فيها إلى تربته ؟!
كان يطرح سؤاله بنَفس ضعيف، ويعلم أن لا أحداً سيجيبه .
قبل عشرة أعوام لم يكن يسعل، كانت سيرته كثوبه الأبيض (ناصعة البياض) لم تكن هناك اجتماعات تعقد لأجله، لم يكن هناك وقت مهمل.
ثرثرة ( العجائز ) كانت تاخذ منحى آخر أكثر بساطة وتفاهة أيضاً. لم يكن يتوهم كما يفعل الآن.
أتذكر نبرته الساخرة حين أخذ يتندر عليهم ..
- همومهم الكثيرة تجعلهم يفتشون عن جنازة لا تخصهم يدلقون عليها ترهاتهم، وربما كي يتخلصوا من فضلاتهم.
دعَوْته مرة لزيارة الطبيب، تردي حالته كان يقلقني عليه، أجابني بلا مبالاة :
-ماذا سيفعل الطبيب أكثر مما فعله الزمن ؟!
الأطباء يحتاجون لمن يعلمهم الحياة، وأنا أعيش كما أريد، ولست رهن إعياء الآخرين.
- أنت تكابر، وهذا الأمر أخشى أن يكون سبباً في نكسة لن تقوم منها.
-أنا طبيب نفسي وأدرك ما ستؤول إليه، فلا تنشغل بهذه الأشياء الصغيرة.
لم يتغير، ولن يفعل، ثابت أمام كل محاولات انتشاله، كل العالم على خطأ وحده الحق، الصواب الذي سيعجل بنهايته، منظاره الضيق حجب عنه الضوء !
هاتفه أخرس، ثلاجته تتعرق، حذاؤه مهترئ، وملابسه تتوزع بين (طشت) و مسمار علق على جداره غرفته.
تزوره بعد عام تجد كل أشيائه كما هي، حتى هو على سريره كما هو قبل ذلك العام، الفرق الوحيد أنه لم يعد هناك، لقد غادر قبل عشرة أعوام.

طي الغد



الأعلى ليس هو
المكان المناسب دائما.
صرخ بها وألقى بجسده من الدورالسابع وسط ذهول رفاقه.
مهند كان هو الوحيد الذي يعلم بأن ذلك سيحدث في يوم ما، فهو يعرف صديقه جيدأ، ويعلم بأن السماء لا تحتفي بالأوغاد كل حين.
قبل ساعة السقوط الأخير بيوم كان لا يفتأ يشتم الحظ ويلعن الطبقية ويزدري القبيلة, وأكثر من ذلك كان يشك في عدل السماء :
- الرب الذي أوجدنا ألم يجد غيري من بينكم ليصب عليه سخطه فيضعه في هذه المنزلة الحقيرة.
- دعك من هذا . الطريق التي نسلكها تتكرركمفردات طفل يتعلم الكلام، وأحيانا كالبيت الموقوف بلا وجه حق .. ذلك الذي لا يدر عليك مالا، أو كالأرض البور التي لا أنت تخلصت منها ولا هي أطعمتك.

كان مهند يعلم بأن هذه الأفكار التي تخاتله ستأتي عليه، و على أقل تقدير ستذهب بعقله.
فجوة شاسعة بينه وبين واقعه. الأحلام البعيدة المدى .. براكين تصيب حممها أقرب الناس إليه. لايتوانى عن توزيع الشتائم بدءاً من أطفاله الصغار متجاوزاً الوطن وحتى أبواب السماء.

وجده يوماً جالساً أمام باب بيتهم يعبث بالتراب. عندما رآه مقبلا عليه بادره بالقول:
- ألسنا كلنا من تراب، ومع ذلك التِّبر يعلن براءته منا، بل هناك من أصبح إلهاً والتعريض به طريق البسطاء إلى الجحيم.
- لن تغير العالم يا صديقي والناس مراتب. ربك يهب من يشاء ويختبر صبر من شاء.
- والتقوى التي هي مقياس التفرقة يامهند.
- تلك القلوب وليست السحنات.
- وددت لو أنني ( جرّافة ) لأساوي التراب بالتراب.
- أما أنا فأود لو أنك إنسان وتتناسى ذلك الحقد والغل الذي يعتمل فيك حتى يكاد أن يفتك بك.
- تعني أن أستسلم للعراء وأنساق مع البسطاء تحملنا الريح حيثما شاءت ونظل نسبح ونشكر بحمد المنّان.
- أعني ألّا تتأسى لماضٍ وتعجّل بالسير لتدرك حاضرك وتنشئ مستقبلك.
- أعدك بأنني سأطوي المسافة وأدرك ما بعد المستقبل.

وطن ينمو خارج العادة


الحسنة الوحيدة التي أنجبتها بريئة من كل الخطايا ، أظن بأن الحياة كانت عادلة معنا. آخر يوم ركلتني فيه الكآبة خارج المنزل كنتِ تستبدلين صرخة أمك الغاضبة بصرخة استقبال الحياة لكِ بوجه مكفهر.
أمك وطن حزين انتهك كرامته مستعمر دنيء ، وكان لابد له أن يتحرر.
كنتُ أفصّل لها الحياة كما تملي عليَّ مزاجيتي، وقائمة الممنوعات
تفوق احتمال معتقل في قضية أمنية، ومع ذلك كانت ترضخ من أجلكِ،
أو ربما كانت تعقد آمالها على هداية غيبية تصب في خلَد رجلها الذي تعطلت آمالها فيه.
وعندما أيقنَت بوجود ختم لا يمكن تغييره، أوكلَتْ محامياً وخلعتني كحذاء قديم.
غضبتُ كثيراً، وكدت أرتكب جناية في حقها، فقررت تشويه وجهها الجميل،
وضعَتْكِ في وجهي كآخر صفعة أيقظت ما بقي من رجولتي التي مازلت أعتقد بوجودها.
كان يجب أن أحمل كل سيئاتي وأرحل حتى لا ينالك شيء منها.
تشبهينها يا صغيرتي حتى في هدوئك القاتل، فلا شيء مني أودعته إياكِ،
الأمر الذي يجعلني أشكك في أبوّتي لك،
فمن يصدق بأن هذا الملاك الجميل خطيئة رجل بشع، يسيل القبح من كل مسامه التنتة .
كنت أتلصص عليك كالخفافيش، وأتسلق الجدار في أوائل السحر لأتطهر برؤيتك،
أنا ذاته الرجل الذي أرهق هاتف منزلكم، فتارة أسمع بكاءك، وأشتُم أمك في صمت،
وتارة أخرى أسمع ضحكاتك فأهتز طرباً وأشرع في تقليدك، وكثيراً ما كان الصمت ينهك صبري حين لا يكون صوتك قريباً من سماعة الهاتف .
عندما طلبت أمك مني بأن أنهي إجراءات ولادتك، فكرت في أن أنسبك إلى رجل آخر خشية افتضاحك بي .
أمك سيدة جميلة جدا، الكثير منها يغنيك لتصبحي وطناً عظيماً،
أما قدرك الذي كتبني أباً لك بيدك تغييره، فالحذاء الذي ألبستك إياه أمك ، يجب أن يكون كفارة طريقك إلى النعيم بعيداً عن التاريخ المشبوه لأبيك،
فاعبري به طريق أمنياتك فوق متني كأول عقوق تؤجرين عليه.!


لستُ بكاتب



كلما قرأت أكثر، آمنت بأنني لست كاتباً.

يفعل الحبر شيئا ولكنه ليس ما يستحق أن يقال عن صاحبه بأنه كاتب.

مؤلم أن يركلني الوهم بأنني كاتب بعيدأ عن هذه الصفة،

ولكن قد يريحني في اللحظة التي يصارحني فيها أحدهم: لست بكاتب،أنت مجرد شخص يحاول ذلك. حينها لن أغضب، لن أشتمه، لن أصفه بأنه مجرد حاقد يحاول أن يطاول قامة عن طريق تصغيرها،

ما قاله .. لا يعدو الصواب. وقد وعيته مبكراً، أو متأخراً، لا يهم، يكفي أني وعيته قبل أن يحدث موقفاً كهذا.

حزين لأنني لست كذلك، فقد تميت لو أنني أتشرف بأن كون كاتباً جيداً، ولكن خذلتني الحقيقة.!

تورث طهراً




حُق عليَّ القول

بعض الأحاسيس يجب إذكاؤها ؛ كي تورِث طهراً

باعد بيني وبين جزعك



أخبرته بأنني سيء، أنا لست كذلك.

أتظاهر بأني سيء كي تسيل المسافة ونتخلص من تفاهاتنا الصغيرة والحقيرة أيضا، على سبيل المثال .. ضربته على يده وصرخت به: كف عن قضم أظافرك، عدوى توترك تكاد تتسرب إلي.

كلانا طيب جداً، وكلانا يعلم ذلك .. وأحيانا نقسو على بعضنا البعض لنتقوى بنا. ضعفك يفتت تماسكي، وأنا كذلك حين أصحو فزعاً من كابوس يعتادني، صخرة كبيرة تتدحرج من عِل والأصفاد تكبلني على الأرض، وأصرخ وأحاول التفلت ولا أستطيع، والصخرة تكاد تقبرني، وأجدك بجواري ترتجف وتؤزني وتخبرني بأني مازلت هنا.

أي عالم هذا الذي لا يرحمنا ولا هو الذي سكب القسوة في دواخلنا.

والخوف كائن بغيض يسكن جهاتنا الست .. رقيبنا الأكثر ضراوة.

أريد أن أتنفس باعد بيني وبين جزعك ولو لعمر واحد

استجداء



لو لم تكن تحلم بأنك ستصبح طبيباً؛ هل كنت ستستقط على سريرك تستجدي ثمن زجاجة دواء لا تستطيع دفع ثمنها، لأنك قدرك كان يدس لك حفنة أوجاع وخيبات متعددة وبعض الشوك في ورديك وفي قلب ذاكرتك وأسفل قدميك.

كان عليك أن تحلم بأن تكون مقرئاً لتتكئ على النمارق ويتحول قبرك إلى مزار.!

هروب من لعنة



أخبرتك أن الصمت هروب من لعنة

وربما .. ميناء السلام الأشد فتكاً بصاحبه

لم أخبرك بأن الصمت شيء يشبه الخوف

يتلعثم الكلام ويتوه المعنى بين عينين وكفك الأملس

من كبّل فم الحكاية



من كبل فم الحكاية يا قصيدة المدينة المحفورة في الذاكرة

خبأت أسرارك وفتحت باب الصمت على مصراعيه ، فنهب السراق حمرتك.

وجهك المخطوف جف كشارع مهجور وماتزال تصبغه بابتسامة بلهاء

تخاف الموت وبينك وبينه مسافة حرف وشفة

ذوى البنفسج - يا صديقي - ونحن بين عمرين تكنسنا الأوهام

الهزيمة أول الفرار والوحدة منتهى الغرق

اثمل قبل أن يباغتك الصبح ويجلدك ضميرك الأعشى !

يا طقس اهجع



الحياة التي سرقت من أعمارنا أشدها التصاقاً بأرواح الفراشات الهائمة، ذاتها الحياة التي رتبت للفرح فصوله. فيا قلبه لا تنم، شبعنا من الموت وارتحالات البؤس.

يا قلبه لا تخذل الرفاق، يا حزن اعقد جدائلك، ويا طقس اهجع.

أول انتظار نقطعه والأمل طود يشق عباب الصبر والأكف ضارعة.

البيد ألا تكون بيننا، لا تطوي مسافات الحرقة لتبعث النسائم

يا قلبه الحياة .. لا تقف

للخونة . . للأوفياء



للأصدقاء الخونة شكراً،

تعلمت كيف أندس خارج نفسي ولا تفضحني عبرة هاربة

للأوفياء ..

لا أحتاج إلى جدار رابع ،

متحصرٌ تغافله الريح





لماذا العزلة واللاشيء والأحزان المكبوتة، وتنتظر وقوع الأشياء كما ترسمها المخيلة، ولا تقع.

المكابرة في حد ذاتها جريمة مع النفس، وأن تتظاهر باللامبالاة والغيظ يفتت صبرك؛ ذاك جحيم آخر.

الباب لم يطرق منذ دهر، وإن طرقه أحدهم تظاهرت بالموت كي تسقط يده.

وتقول قلبي متصحر تغافله الريح ، وتقسم بأنه لا ينبض / لا يعرف كيف يحيا.

لك قدمين وتهرول روحك عكس الأمل بمحاذاة الشتات

أليس بغريب أن تؤمن بك في زمن الخيانة والمعتقدات الهشة.

عالمٌ صغير يسكنك وتسافر فيه وحدك، تستر تفصيلك خشية أن تخدشها لفظة عابرة

تضطجع على الوهم وتلوم الحظ وكأنك الذي يسقي عروقه

وتضن على الحياة بابتسامة تخبئها لحلم تائه يلوح لك من على ضوء نجم هارب

تعرفك وتتجاهل بأنك الوحيد الذي يدرك ذلك كي لا تسخط عليك

كن كما أنت ، الجبل يؤوي ذئابه !

الكل يختنق



لا أحد ..

الكل يثرثر للهواء .. الكل يختنق

معتقده البارد



كنت أعلم أن الشراع لم يصمد طويلا

فالحقيقة ليست ذلك الطريق الذي ابتدأ بـ أريدك وانتهى بلا شيء مطلقاً

الحقيقة هي تلك الروح التي اشتعلت جذوتها سريعا وابتدرها شتاء مباغت قبل موعد حلوله

أو ربما الخطوتان اللتان اختلفتا في منتصف طريق شائك، تعرقلتِ أنتِ وأصلحت هندامك ومضيتِ

وخلّفتِ له وراءك فوهة ابتلعت ما تبقى من كرامة رجل أنهكه السير خِلاف معتقده البارد

تكسّر الشراع ومادت سفنه .. لا ضير

انزوى وتقلص الحلم .. أيضاً لا ضير

ماذا يعني أن يصطلي ../

يتداعى

يموء

ويحتسي ظمأءه

ماذا يعني أن يتفطر كمداً

أما كفاه أن اعتلا ولمّا يصل

أيا ساقية .. الأبدية ليست أنا

ربما أنتِ

لــو



ماذا لو ماتت ( لو )

كم شيطاناً سينام قريراً !

الضوءُ واهنٌ



لماذا يا أرق الضوءُ واهنٌ

والأحلام تكسرت أنفاسها

أما آن للأقدام أن تلامس الشاطئ الأخرس

وللجسد الذي تفتق عطرا أن يتمدد بلا حراك

دُم . . دُم



أجهل مقاس وهمك

لذا شنقته ../

خنقته،

كفّنت راحتيه

وتركت عنقه مدلاة

ماضيك حاضرٌ لا ينام ..

يدير ذاكرتك.

الغد أخرس لا تراه ../

لا تستدل وجهته

ملامحه فارغة

تائهة كيومك الذي أدار جنته ..

ونادم الضباب

النور ظمأ الماء

والعروق ارتواء يتقهقر

يا أيها الجدب المقيم ..

دُم .. دُم .!

سِراً أذيعه



قل لي سراً أذيعه بملء حنقي

أحيلك مائدة عامر وأمضغ سيرتك

تتكسر شجرتك فوق أفواه الشامتين

ويبصق الأولياء فوق ضريحك

مللت جسدي الأخرس



أُكتُب .. أتوق لأن أتنفس الوردات من شفتيك

أُكتُب .. كي أجوس من خلال ربيع المفردات وتذوب أوردتي

أُكتُب .. حرّض الطير النائم في صدري ،

علّمه كيف يفرد جناحيه ويغني

الصباحات تشتاقني وأنت تملي لليل مواعيد غرامه مع نهايات السمر

مللت جسدي الأخرس ..

فلم تعبره موسيقاك حين نظمت أيقاع فتنته بين لحنين وأغنية مهاجرة

الصوت نائم يا سيدي والحناجر تصدعت ..

ساعة واريت حرفك وخنقت فم الدواة

أُكتُب .. حتى لا ينساني الليل وتهملني الأزمنة

أُكتُب ..

عصفوري مخمور



أفتش عنكِ هارباً من يأسي

ألكز كتف الموت القادم أطلبه أن يتأخر

يتكسر رأسي نصفين

والحظُّ الأعشى يجهز تابوتي

أسكب كأسا وأذوق مرار الظن

وأسوق مسائي حتفه قبل النشوة

يصحو بعضي والآخر يترنح تيهاً

وافيق بلا مأوى

أهرب منك وأرقب يأسي

ويتلقفني وهمٌ شارد

/

عصفوري مخمور

وطني أعرج

رجلٌ يعرف سوءَته



هذا العالم الغريب، يشبه رجلاً أعرفه ،ينتحب في الخفاء، وتفتته الحاجات الصغيرة، يصعد سماواته وحيدأ.

مولعٌ بالصمت، يوزّع ثرثرته بالتقسيط على الحلفاء. سلقه العابرون بوابل تذمرهم، قاربوا بينه وبين العته،عمّد أقاصيهم بالكره.

رجلٌ يعرف سوءته، ينافح عن كبرياء مهترئ. يصِل المدن العتيقة، ويركل الجِنان بظاهر طيشه. الرجل العالم يتصفد حديثه عَرَقاً. يغافله نجم هارب باتساع الكون، يبتاع لمسراته أوهاما متعددة في قسوتها. هذا العالم الرجل كبّل الحياة بين اثنين، وأسلم إليهم موته قبل قطافه

ظمأ الوردة



غرّبتنا أشياؤنا الصغيرة

وجعي صفحة بيضاء وحبرك يرسم وجه كدماتها

يا وطني الأشهى أرَّقني المنفى

حاجاتنا المدخرة للفصل القادم

اعتمرها الجدب قبل أوانها

من يسقي ظمأ الوردة حين تحملنا الريح خارج حكاياتنا

ويتوه عنّا يومنا الحزين

ويستفيق جدار أسلمناه غفوة طويلة.!

ميادة الحِس



وسديني أغنياتك خطوةً خطوة

وارقصي

هشّمي رأس الفقر الصغير

وارقصي

لصغارنا خبأت كِسرة أمل يقتاتون بها

بؤسك الذي ادخرته لعمرٍ بأكمله

تذروه - بعيداً - اهتزازة منكِ

تمايلي

الريح تلقف أوراق الهم

تُغرّبها

دعينا نحتفي بالعمر كله ساعتين

فارقصي يا ميادة الحس

جسدي القصيدة



أنا التراب يا ماء الزهر

جسدي انتماء البيادر الخرساء

ميلاد أمنية العشب الغض

جسدي القصيدة حين يلفظك المنفى

تسوَّري تينك الأغصان

مددي التاريخ

وانشطري نصفين / عمرين ..

وانتحبي

قلبي مدينة



ذاكرتي الشقية تسرق من المارّة فتنة العيد

وقلبي الضعيف لا يحتمل انهمارات العتبى وشجن التوت

قلبي مدينةٌ فقدت تقويمها وغادرتها الأزمنة

أموء كقافيةٍ يتيمة



قل لي كلاماً يشطرني نصفين

أموء كقافيةٍ يتيمة

أستشهد مائة مرة على صدر حرف

وأتجدد كنبعٍ احتبست روحه ألف عام

قل أني ذهول الخامسة عشرة

وأني شظية عِقد بأكمله

وأني منتهى الآمال المعلقة

واهمس - أنتَ - خدراً وقل ..

دعيني أوسِّدُ رأسي حِجرك واتركي عينيكِ تقبّلني

انتمائي لصوتك



أشتهي تقبيل صوتك، عناق نبراته

وأن أبكي على صدره كما لم أفعل من قبل

أطعميني تنهيدةً حارقة

فانتمائي لصوتك فعل أمومة لم ينقطع حبلها السري

يا حور



يا حور ..

رجلك وعِرٌ ساعة تجهله تفاصيلك

ويلفظه التل ويتوه عن خليجٍ يحتسي ظمأه وحيداً

يا حور ..

ملًته أشياؤه المهملة وأرّقه جموح كفَّي غيمة هاربة

يفتته التنَور .. يأكل ذاته / تتخشب أطرافه

وطنه الهارب يتمتم للبحر ..

مرجانك أخرق ، ومروجي ثاوٍ يحتفي بميلاد كآبته

يا أزرق ..

شاطئك المهمل يبرم عقداً ، وغريمك يسخر

يا أخرق ..

الشوك يغزو ضفة حلمه الغارب

والزبد ينتحر فوق صدر المدينة

ياحور ..

نام البنفسج فيكِ

أشياؤه على باب الحديقة تصلي

والثغر يضيق

والقهر يفيق

والجنة مزلاج

وأنتِ العشب

فادلقي البصر

واغرقي

قصّض جناحيه وهذب شيطانه



اشتقت أن أرسم الأقدار على مقاس جنونك

كنتُ المرسى ، وكنتِ السفينة

تطوِحين بي بين كروم الشك وعلى حواف هجرنا الأخير دوماً

أغضب منكِ فرسخاً .. وأثوب إليك باعتذارات تغطيكِ وحتى أخمص غرورك

يروقني منظر حاجبين عقدهما دلالك الموروث من شركسية لم ترضعك

تفتنني جمرتين ترسل العتبى لتواري قناع شجن شفيف

أدمنت الصبر على لأوائك كي أقيم أمداً طويلاً طويلاً طويلاً بين عينين وشفة

يستحضرونني كلما فاض سيل شوقك الموارب

وغْدُك الكبير قصّص جناحيه وهذب شيطانه

فلا رفقاً يروم ولا أسىً يبسط كفيه أمامه

لا تمت قبل لثمها



كم من الشتائم تزمع دفعك عن طريق باصقيها ، وتصدها عنك النوايا الطيبة.

رسولك الأمين أوفى الكيل، ولا تثريب عليه، فلا تبتئس.

حزمتَ حقائبك مغادراً قريتهم؛ ثار نهرٌ واهتزت نخلة باسقة.

الأعين الضيقة لا تجيد جسّ القلوب الكبيرة

وفَجْرك الذي لاح للغرباء يعرف طريق أمنياتك الحبيسة

وأنت ذاتك تعلم كيف تهز صدر الحلم وتسقط الثمر

وكيف تكسر المدام حين يلتم الرفاق وتتناثر الخِرق البالية

على الضفة الأخرى بدور تحزم أوسطها بالنور

والخلاخل نسيم يسقي عروق المجاديف

فلا تمت قبل لثمها .!

المسافة وباء



يا نوارة الحلم

يا فوّهة الهذيان ..

يتسكع بين روحِ وشفتين

يا منتهى الغرق

عيناكِ .. ما بالها عينيكِ

من جفف البريق بعدما خزنت جيوشه مقلتاكِ

ثغركِ .. الأناشيد اليتيمة

جِيدكِ .. أوّاهٍ يا جِيدكِ

من يحرس البيادر

ويتسوّر مسافة الغياب المحموم

يا أنفاس القصيدة

خيول الشوق جامحة

فماذا بعد الغرق

أرق

باب حزين يتشرب أوهامه

يدان قصيرتان وكفّ أخرس

ومدينة يدسها الضباب وراءه

وأنتِ والوجع الفارط

وقلبكِ الوسادة

ورجل غريب

يا سيدتي .. المسافة وباء

وفادح هذا الفرَق

أشجار القلب يابسة



وفاءَ منها وأجدبت عروقها

على آخر حرفٍ حزم أمتعته

وغلّق أبواب الحلم

هيت لك أيها الشرود

إمضِ حيث شئتِ للبعيد هناك

أشجار القلب يابسة

ما استدلت على الغرق

وروحك الغضة يذبلها انتظار ما لا يأتي

الوصل شحيح يا سيدتي

والجنة وهمٌ ضرير

رجُلك حمّال أوجهٍ لم يتعلم الحياة

بلا فصلٍ خريفي



يا أيها الوهم أقبِل وكن مدينتي التي أجوب طرقاتها

يا أيها الوهم أوثِق حبالك وارتق الفراغات التي نخرها السوس

أنا هنا رجل حزين بلا معنى

عابرٌ يواري سوأة الظمأ

صدّق بالفتات واحتسى السقم يقيناً

إني بلا وهمٍ /

بلا فصل خريفيٍّ

بلا شطئان

إني أنا

وحدي هنا أفتِّش عن خدينة

أغلّق الأبواب

يركلني الوهم

وتلفظني المدينة

أمانٌ . . أمان



هممتِ بالغياب ، فكان النحيب أنشودتي معكِ

كان موسم الحصاد ميقات رحلتنا الأخيرة

كنتِ فيئا، وكنتُ الطريق الذي يوصل للنهايات السعيدة

الأرض يابسة يا سيدتي والروح فضاء فسيح

أخطأنا حينما أفطرنا بعد انشقاق الغسق ببضع تعب

ألقمتك النزر اليسير ،

وأسقيتني من خلف التلال صحراء لا تقيم أود الصائمين

إليَّ عنكِ مسافة برء

وإليكِ عني واحة غنّاء

سلامٌ علينا حين لا يلتقي اللحظان

وحين لا ننبس بترهاتنا على مقعد المحطة التالية

أمانٌ .. أمان