من مذكرات عبد نافق، عفواً أعني ناقم:

حريةٌ يكون فيها الإنسان البسيط، إنسان الشوارع الخلفية، مجرد جرعة حنين.
حريةٌ بلا أهداف سامية ولا خطط تنمية بشرية؛
ليست إلا ثارات (بلشفية)، وانتحار جماعي.
إنها شهوة المنتصف، وربما عبودية هوىً متأخرة.
لو أخبروك بأنك حر، ماذا ستفعل بحريتك تلك؟
أم أنه هواءٌ تود لو تستنشقه فقط؟
ما سيفعل ثور الساقية بحريته؟
ألا يقلقه انعدام جدوى تحرره، وهو الذي تصلّب عقله وتضخمت أعباؤه النفسية؟

تونس

هتف الجميع: قُم أيها الإنسان، وإلا فنَمْ أبدا.
نفض اليأس، وركل الذل، وفتح صدره للموت،
علّمهم معنى أن يكونوا - هم - القدَر
يد الجوع والقهر أشد فتكاً من المفاعلات النووية والأمراض الخبيثة
إنها أمة من الضواري تلتهم كل من يعترض طريقها
يد الجوع إنسان أججه القهر، فآثر الحياة على موت حقير في زاوية منسية
نحن زمرة من الأوغاد، نرتكب أبشع الحماقات في الظل، والنهار يكشف موضع السجود المعتق في جباهنا.
هم مكتئبون وحزانى الآن. هم ليسوا مخطئين، وإني لا أشبههم؛ فلا يجدر بي أن أرهق نفسي بالتفكير فيما أملكه الآن،أعني الآنيَّة التي توهّموا لأواءها.
ما يقلقني هو ذلك الذي أجهله، وما الذي استطيع فعله فيه للآخرين ولي، ذلك المستقبل الذي يعِدُنا بالجفاف، ويدسُّ لنا الجريمة في الطرقات، ويحذرنا من الفقر وشح المياه، ويزرع فينا الخوف من أمراض مجهولة تنهب صِغارنا.
ما أخشاه هو ذلك المستقبل الذي لا يخجل من التصريح بموت الإنسان الحقيقي
أخبرتك بأن قلوبنا شتى، وأن ما تراه لا يعدو ان يكون مجرد احتمال قد تصده الريح وينفر منه طير، وقد تانس له وحوٌش ضارية، وعلى سبيل المثال:
أنت في هذه الساعة تريد نوراً خافتاً وتهيئ نفسك لمشاهدة فيلم ممتع، وربما سَمرة برفقة المقربين إلى مزاجك، أو كتابٍ يونس وحدتك. أما أنا فممتلئ بصوت قبيح وإيقاع راقص والكثير من الازعاج الممقوت عندك.
قلتِ لغتي عميقة.
بربك إذن كيف أنجبتِ لي كل هذا الفرح، وعلّمتِ قلبي ألّا يخشى الطيران بلا جناحين، وجعلت شجرة الإنسان في داخلي تونِع أزكى الثمار
تزيّف قدرك عندما تنتظر من الآخر أن يرشدك إلى الصواب، وأنت الذي يتردد في وضع قدمه على العتبة التالية خشية أن تعود حسيراً من أمنيتك اليتيمة.
لو كنت تدرك بأن الآخر قدرٌ مغاير ومؤجل، لربما جعلت منه عتبتك الأولى
- ماذا يشغلك؟
- قوت يومي.
- وأحداث هذا العالم؟
- موزّعةٌ ما بين قلب يخشع ويمور، ينكفئ بأبسط الإيمان، ويستطيل بكفٍ قصيرٍ يمتد حيثما يستطيع ويقدر.
- وأين أنت من ضباب هذا العالم وأحواله المتأججة؟
- أظنني اكتفيت بذاكرة تمخر عباب التاريخ، ومخيلة تُفتِّق كروم المستحيل.
أطعمني بعضاً من الموسيقى
فأنا أحتاج لأن أحزن،
لأن أحلم بأشياء صغيرة.
أحتاج لأن أبكي على شيء لا أعرفه
وألوم وطناً أحبه وأجهل تفاصيله.
أطعمني معزوفة توقظ الحنين
وتغزل لي بيتاً من الشعر
تصنع لي كوخاً على الشاطئ البعيد
وتُلبس الشجر العاري أوراقاً تجيد خلق الظِّل لكي أنام
الأفكار المثالية لا تصنع إنساناً كاملاً ولا تبني وطناً.
ما قيمة إنسانيتنا إن كنا بلا أخطاء؛ شريطة ألّا نؤذي الآخرين
لو كنت تعرف مقاس ذاكرتي لما عوّلت عليها، فلماذا ورهنت أنفّسَ أشياءك وأودعتها قِربة مشقوقة تظن بأنها ستحتفظ لك بها لليوم المشهود؟
الرجل البسيط يهذي:
حكايات هذا العالم أتفه من مسراتي، وأغرب من كل الاحتمالات التي وضعتها لتفسير الجزء الذي يهمني فيه.
أحتاج لشيء يسرقني مني، فأنا تعبت معي، وكاد اليأس يأتي على منطق الأشياء.
ما يزال مِرجل رأسي يغلي، والغبار يزاحم الأفكار.
أيها الفقراء أديروا لهذا العالم البائس ظهوركم، أو ابحثوا عمّن يسرقكم ولو لليلة
يا أيها الشتاء: أيُّ ثعلبٍ علّمك فن المراوغة
وأي مشفى ذاك الذي أبرم معك عقداً جعلك ترغمنا على زيارته؟
بالأمس أرتدينا كل مافي خزائننا من ملابس شتوية، واليوم نكاد نخرج من منازلنا عراة
لستَ في حاجة إلى من يكنس الصوت القديم من ذاكرتك،
ولا إلى من ينفخ الروح في حاضرك.
كل ما أعتقده أنك في حاجة إلى من يعلمك الرقص
نحن بسطاء في أحلامنا، ليس لأن الأشياء الكبيرة تولد من حلم صغير، لا، ولكن لأننا نريد أن ندرّب مخيلتنا فتتسع لتحوي الكون بأكمله، ولأننا نود أن نحيا أطول وقت بين دفتي حلم
نصحه الكهل الذي زاره في الحلم:
إنك لن تبعث أحداً من مرقده، فلا تجفف ريقك بحديث يقع على أصنام، اختارت العمى طواعيةً على أن تقوم بواجباتها تجاه الكائنات البسيطة والمهمشة.
إن أولئك البسطاء لا يعلّقون آمالهم عليهم. يعلمون بأنهم لو فعلوا لخطفهم الموت قبل أن تبتل عروقهم.
يا بني ابدأ أنت، وساعد من استطعت منهم، كن أنت الشعلة ولا تنتظر الموتى.

حينما استيقظ وجد أعضاءه تؤزّه على التبرع بهم
ربما لو كنت قبل ألف عام، لصنعتَ فُلكاً، وتركت البحر يختار لك الشاطئ والنهاية.
ولكنك الآن، حيث لا بد أن تختار.
فهناك من لن يتوانى عن رسم قدرك، وتفصيل خياراتك على مقاس فكره، وكما يشاء أو يتمنى.
وأنفِرُ من ظِلِّك؛
فلا يلبسني السُّهدُ
أو يفتتني الأسى
إذا كنت خشى الأسئلة التي ترى؛
فلماذا تركت القبوَ وأشحتَ بقلبك عن العمى؟
في البدايات خدّره الحظ
بعد أن وضع الغد في (الهندول).
استوت الأشياء،
فأكل الشك نصف رأسه
أما اليقين فقد جزَّ عنق ما بقي منه
أنا يا وطني لستُ معوّقاً،
مع كوني لدي احتياجات خاصة
فلماذا أتأتئ بالكلام
وأشعر بأني فيك يلازمني الشلل؟
علينا أن نكذب أكثر كي نماطل غدوَّ الحياة ونستثير رواحها، بعد أن جرَّعتنا مرارة الصدق
وأرتاب،
ليس كما يخيّل لأحدهم؛ أرتاب لأثير حفيظة الكلام
والليل لا يسعفني.
يمرق الحديث من سَحَري كما برَقَ طيفٌ لذكرى حميمية، وبددته صفعة ضميرٍ مشاكس على شاكلة شرطي مرور يستوقفك بغتة ليسألك عن أوراقك التي نسيتها في غمرة استعجالك للحاق بموعد خروج والدك من المصلى.
هي الكتابة تتبغدد، تسرف في مجيئها أنّى شاءت، وتتمنع كأنثى مشتهاة بعد شهر صبر ممض، أو كالسراب ترجوه ويمعن في الهروب
إذا لم تكن تملك خياراً حاسماً، فاتبع أحد الخيارين:
إما أن تنتهِ أو تنتهي
وحده الليل علَّمني كيف أنثر ذاكرتي بأكملها،
لأجمع - فقط - حبيبات النسيان؛
زكاةً عن كل السيئات التي ارتكبتها
دون أن يطرف جفنٌ لضميري
الذي لا يدري، لا يشعر، لا يرفق بدمعة سلخت ظهره
لا يؤذيه وجع العالم قدر ما تؤذيه كلمة أحبك
ينكر الأشوق يحرقها كصمت البلابل
يصم قلبه عن الجزع الأخير وكأنه لم يكن
كخاشعٍ وجِلٌ تجتازه الفتنة ولا يعيرها انتباهاً
ذاك الذي لا يعلم يسرف في الغياب
كطالبٍ للموت أضنته فواجع الحياة
لو صدق الإبهام؛
فكل ما هنا يفسر معنىً للموت المبكر:
تلك السبَّابة مهمومة
والأوسط يتناسل قلقه
أما الخنصر أعطبه الخوف
أبدى امتعاضه من المسافة الصلدة بين الواقع والخيال.
يرى أنها أشد تعقيداً حين يتداعى الجسر في واقعه، قبل أن يرتد إليه طرفه،
مع كون الوتد في مخيلته أصلب وأكثر حنكة.
خلَصَ إلى أن الواقع في حقيقته ليس إلا زقاقاً قذراً بين قصتين،
كلتاهما تنتهي بشكل مزري.
وأن أسلم أقداره: السقوط في هاوية الخيال التي بلا قرار
أحب الحياة لأنني لا أعرف ماذا ينتظروني هناك،
ولم أصل حد الاكتفاء،
ولأنني أخاف
لماذا هاتفك مغلق؟
- لأعُبَّ من الحياة، وكي يصير الحلم حراً
الناس يغضبون منك عندما تطأ بلسانك القذر على طرف أوجاعهم
وهم ذاتهم يفعلون ذلك معك عندما يلمحون منك ما يشبه سوءاتهم
لا يتوانون عن البصق على كل أوجاعك ليداروا نطفةً منها علِقت بقدمك
أو ليتنصلوا من وحمة شاهدوها على رقبتك
أو حتى ليتخففوا من حملٍ أثقل كاهلهم ولو كان على سبيل هش قمامة تقيأتها مع أنهم في الحقيقة كانوا يعيشون دور المرمى.!
ما السر في كونك تحتمل قتل أحدهم لك كل يوم؟ ألهذا الحد الحياة بغيضة، أم أنك تدرك مدى لأوائها، فتحضّر نفسك لموت أعظم؟
ربما تكون الأمور السيئة التي حدثت، أوالتي تقع بشكل عرضي دائما، هي ذاتها الأمور التي نتمنى حصولها ولو بدافع التشفي، أو التجربة، وربما التغيير.
الحياة ليست سيئة في مجملها، ولا الموت كذلك.
ما ينتج عن الأولى ويؤدي إلى الآخر: هو في حقيقته السوء المحض الذي أضمرناه في لحظة قهر أو يأس، وتمنينا وقوعه للانتقام من حياةٍ ما كي نوجِد شكل الحياة التي نريد لها أن تكون.
نسيتُ وديعة دسستها في صدرك
زفرتِها،
احترقْت،
فمات شيء
إليه حين يزمُّ الليل شفتيه ويلفحني الصدى
وأرتخي
ودوائر الدخان تشي بنا
والغياب يفتت النوى.
يضطرم عِرق
وتلبسني أناك
فلا أتوه.
يردمني الهجير
ولا أغيب
ولا أغيب
ولا أغيب.
يشدني إليه ..
وعند ابتدار الصبح ينتهي
العابر الذي أطلَّ برأسه أشهراً،
أهمل المفتاح الأخير فوق طاولة يؤمها الأشباح.
ما عاد ينقر رأسه القلق،
وليس بمُجدٍ انتظار سراب كوخ البحيرة
فالسماء في الأعلى
والأمام وهْم
كثيراً ما أفكر كيف ستنتهي حياة الرجل الذي لم يعبأ بها.
أنهيت كوخ العم توم ودمعة تسبقني، لا أعلم لماذا فعلَتْ ذلك.
ولجت إلى رأيت رام الله، فاختنقتُ في بداياتها.
هل سيموت ذلك الرجل ودمعة تطفر فوق خده أم سيتسبب في اختناق آخرين أدركوا - متأخرين - سخافة الحياة التي غذّوا السير في لحاق ما سيتركونه خلفهم يشمت من لهاثهم المتتابع؟


أخبرني بأنه لا يريد أن يموت مبكراً، وأخبرته بأنه لو حدث ذلك ورحل، فهذا أكبر دليل على سخافة الحياة التي نعيشها.!
ما الذي يجعلك تتمسك بالحياة بكل هذه القوة
حتى أن الموت الذي جاءك مفنداً أسبابه، غافلته وتركته يمور وهو يفتش عمن يأخذه غيرك؟
ألهذا الحد تستحق الحياة أن تتمدد فيها كثعبان في الرمل*؟ أم أن الموت - ذاته - استاء لخطف رجلٍ مثلك؟
أم ماذا؟
ماذا؟
نكتب لنعلم الآخرين بأننا أحياء، وأن شجرة الأمل ماتزال واقفة،
حتى وإن اعتقدوا بأننا متنا قبل يومنا ..
ليس إلا
الماضي يعشش في ذاكرة الرفاق؛ لأن الحاضر البليد سلق أعمارهم على صفيحة، وألقمهم للضباع الشاردة



لو أدركت بأنك حياةً؛
لما أحببتك.
فانتهائي يعني:
أن لا خلود لي معكِ