سيرة مباحة





صوت موسيقى yanni (نوستلجيا) يتسلل ليكسب المكان شيء من الهدوء النفسي، وعلى الشاشة الكبيرة برنامج وثائقي عن التلوث البيئي .

- هل سيجتمعون اليوم أيضا ؟
طرح سؤاله دون أن ينتظر إجابة، فقط أومأت برأسي.. أن نعم.
كانوا في كل آخر أسبوع يجتمعون على شرف سمعته، هو مادة خصبة للجميع - خاصة - حينما لا يكون هناك ما يتحدثون حوله. يتفقون بدون سابق موعد على استحضار سيرته.
الآنسة راغبة - بالمناسبة ليس هذا اسمها، ولكنه التصق بها بعد أن وصفها به صديقي حين لاحظ كثرة رغباتها التي تنحصر في صنف محدد من الرجال مع أنها تعدت حاجز الخمسين من العمر - تتعجب من عدم رغبته في الزواج، بل إصراره على البقاء وحيداً , وكثيراً ما تطلب منهم عرضه على أخصائي (ذكورة) وتلمّح إلى كونه ( عنِّين ).
تعارض ذلك السيدة بريرة صاحبة اللسان السليط والتي لا يسلم من (حوقلتها) أحد ..
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ليس كذلك يا راغبة لا تقعي في الرجل، تلك ذنوبه الكثيرة السابقة، ويبدو أن عيناً أصابته، هو في حاجة إلى شيخ يقرأ عليه.
الكل يطارد دخان سيجارة طارق. طارق الذي يحتقرهم جميعاً يفلسف الأمور على طريقته .. يزدري آراءهم، يراهم من عِل.
يتكرر المشهد ..
يرفع يده التي يمسك بها سيجارته، يراقص دخانه. ويصمت الجميع بانتظار ما سيتفوه به، يسحب نفساً عميقاً منها ويظللهم بسحابة دخانه ويتحدث بهدوء العارف :
- هناك مأزق. والتغير الجذري لم ينبت ( كالفقع ) فجأة، أعتقد أنه يصارع ماضيه،
آ آ .. أظن العلاقة بينه وبين حاضره مشوشة، علينا أن نفهم كيف يفكر.
هكذا هو طارق، فالكل يؤيد ما يقول، مع أنه أكثرهم جهلاً، ولكنه الأعلى مقاما، يكفي أن يحمل شهادة دكتوراة.

لماذا يبعثه الآخرون في اللحظة التي يأوي فيها إلى تربته ؟!
كان يطرح سؤاله بنَفس ضعيف، ويعلم أن لا أحداً سيجيبه .
قبل عشرة أعوام لم يكن يسعل، كانت سيرته كثوبه الأبيض (ناصعة البياض) لم تكن هناك اجتماعات تعقد لأجله، لم يكن هناك وقت مهمل.
ثرثرة ( العجائز ) كانت تاخذ منحى آخر أكثر بساطة وتفاهة أيضاً. لم يكن يتوهم كما يفعل الآن.
أتذكر نبرته الساخرة حين أخذ يتندر عليهم ..
- همومهم الكثيرة تجعلهم يفتشون عن جنازة لا تخصهم يدلقون عليها ترهاتهم، وربما كي يتخلصوا من فضلاتهم.
دعَوْته مرة لزيارة الطبيب، تردي حالته كان يقلقني عليه، أجابني بلا مبالاة :
-ماذا سيفعل الطبيب أكثر مما فعله الزمن ؟!
الأطباء يحتاجون لمن يعلمهم الحياة، وأنا أعيش كما أريد، ولست رهن إعياء الآخرين.
- أنت تكابر، وهذا الأمر أخشى أن يكون سبباً في نكسة لن تقوم منها.
-أنا طبيب نفسي وأدرك ما ستؤول إليه، فلا تنشغل بهذه الأشياء الصغيرة.
لم يتغير، ولن يفعل، ثابت أمام كل محاولات انتشاله، كل العالم على خطأ وحده الحق، الصواب الذي سيعجل بنهايته، منظاره الضيق حجب عنه الضوء !
هاتفه أخرس، ثلاجته تتعرق، حذاؤه مهترئ، وملابسه تتوزع بين (طشت) و مسمار علق على جداره غرفته.
تزوره بعد عام تجد كل أشيائه كما هي، حتى هو على سريره كما هو قبل ذلك العام، الفرق الوحيد أنه لم يعد هناك، لقد غادر قبل عشرة أعوام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق